الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
وإذا حاصر المسلمون حصناً وفيها أسير من المسلمين فأمنهم ثم جاء بهم ليلاً حتى أدخلهم المعسكر فهم فيء للمسلمين لأن الذي أمنهم كان مقهوراً غير ممتنع منهم وأمان مثله باطل. ولأنه ما قصد بهذا الأمان النظر للمسلمين وإنما قصد تخليص نفسه ولو صححنا أمان مثله لم يتوصل المسلمون إلى فتح الحصن من حصونهم قهراً فقل ما يخلو حصن عن أسير فإذا أيقنوا بالفتح أمروا الأسير حتى يؤمنهم وإن لم يكن فيهم أسير أمروا رجلاً منهم حتى يسلم ثم يؤمنهم فيكون حكمه وحكم الأسير سواء فلأجل هذه المعاني قلنا: هم جميعاً فيء للمسلمين. وفي القياس: لا بأس بقتل رجالهم لأن الأمان الباطل لا يحرم القتل كما لو حصل من صبي لا يعقل أو من كافر ولكنه استحسن وقال: لا ينبغي للإمام أن يقتل رجالهم. لوجهين: أحدهما: أن ظاهر قوله عليه السلام: " يسعى بذمتهم أدناهم " الحديث يعم الأسير وغيره وهذا الظاهر وإن ترك العمل به لقيام الدليل بنفي شبهة فيما يندرئ بالشبهات بمنزلة قوله: أنت ومالك لأبيك. والثاني: أن القوم إنما جاءوا إلى المعسكر للاستئمان لا للقتال فإنهم جاءوا باعتبار أمان الأسير إياهم وقد بينا أن المحصور إذا جاء على هيئة يعلم أنه تارك للقتال بأن ألقى السلاح ونادى بالأمان وجاء فإنه يأمن القتل. فهؤلاء أيضاً يأمنون من القتل ولكنهم لا يأمنون من الاسترقاق فنخمسهم ونقسمهم بين الغنائم. وكذلك لو كان الذي أمنهم مستأمناً فيهم أو كان رجلاً منهم أسلم فالمعنى يجمع الكل. ولو أمنهم مسلم من أهل العسكر فأمانه جائز لأنه آمن منهم. ممتنع في عسكره فأمانه كأمان جماعة المسلمين. فإن لم يخرجوا من حصنهم بعد نبذ الإمام إليهم ثم قاتلهم كما لو كان هو الذي أمنهم بنفسه ثم رأى النظر في قتالهم فإن خرجوا إلى المعسكر وقالوا: أمننا فلان لم نصدقهم على ذلك حتى يشهد عدلان من المسلمين لأنهم صاروا فيئاً باعتبار الظاهر وقد ادعوا ما يسقط حق المسلمين عنهم. فلا بد من شاهدين عدلين من المسلمين على ذلك. ولا يقبل قول ذلك الرجل: إني أمنتهم لأنه يخبر بما لا يملك استئنافه. وكذلك لو شهد هو مع رجل آخر لأنه يشهد على فعل نفسه ولا شهادة للمرء على فعل نفسه. فإن شهد عدلان سواء وجب تبلغيهم مأمنهم لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة. وإن لم تكن لهم بينة إلا قول ذلك الرجل كانوا فيئاً. إلا أنه لا يقتل رجالهم استحساناً للشبهة التي تمكنت فإن ذلك الرجل أخبر بحرمة قتلهم وهو محتمل للصدق وحرمة القتل من أمر الدين وخبر الواحد في أمر الدين حجة وإن لم يكن حجة في إلزام الحكم. فلهذا لا يقتلون. ولو كان المسلم أمنهم على ألف دينار أخذا منهم ثم علم بذلك الإمام وهم في حصنهم فهو بالخيار. إن شاء أجاز أمانه ولم يتعرض له حتى يخرج من دار الحرب وأخذ الدنانير فكانت فيئاً للمسلمين لأن الإمام لو رأى النظر في إنشاء الأمان بهذه الصفة كان له أن يفعله فكذلك إذا رأى النظر في أن يجيز أمان غيره. ثم المال مأخوذ بقوة العسكر فيكون فيئاً لهم. وإن شاء رد عليهم الدنانير للتحرز عن الغدر ثم نبذ إليهم وقاتلهم. بمنزلة ما لو أمنهم بنفسه على هذا الوجه. وإن كانوا دخلوا عسكر المسلمين حين صالحهم الرجل أو خربوا حصنهم فإن للإمام أن يأخذ ألف دينار فيجعلها فيئاً للمسلمين لأن معنى النظر هاهنا متعين في إجازة ذلك فإنهم آمنون في العسكر ولا سبيل للإمام عليهم حتى يبلغهم مأمنهم وإن رد الدنانير عليهم. فعرفنا أن في أخذ الدنانير منفعة للمسلمين. وهو نظير العبد المحجور عليه يؤاجر نفسه ويسلم من العمل. وإذا قسم الدنانير بني الغانمين قال لهم: الحقوا حيث شئتم من بلاد أهل الحرب. ولا يعرض لهم حتى يبلغوا مأمنهم. فيتم به الوفاء لما شرط لهم في الصلح. وإذا فتح المسلمون الحصن فقال رجل منهم: إني كنت صالحت القوم قبل فتح الحصن على هذا الألف دينار. وصدقه أهل الحصن بذلك فإن الإمام ينظر في ذلك فإن كان خيراً للمسلمين أن يصدقه صدقه وأخذ منه الدنانير وأمرهم أن يلحقوا بمأمنهم وإن كان خيراً للمسلمين أن يكذبه كذبه ولم يعض للدنانير وجعلهم فيئاً لأنه نصيب ناظراً للمسلمين. فينظر ما يكون أنفع للمسلمين فيعمل به. ألا ترى أنه لو رأى النظر للمسلمين في أن يمن عليهم كان له أن يفعل ذلك. فهذا مثله. إلا أنه لا يقتل رجالهم على كل حال للشبهة التي دخلت بإخبار الرجل أنه أمنهم. وإن كان حين أخبر الرجل بهذا كانوا ممتنعين في حصنهم فهم آمنون والإمام بالخيار. كما بينا فيما إذا أنشأ لهم الأمان في هذه الحالة. فإن الإخبار به في حق المسلمين بمنزلة الإنشاء. والله أعلم. وإذا قال رجل من المحصورين: أمنوني حتى أنزل إليكم على أن أدلكم على مائة رأس من السبي في موضع. فأمنوه على ذلك. فأنه ينبغي للمسلمين أن يردوه إلى مأمنه إن لم يفتحوا الحصن. فإن افتتحوا الحصن فعليهم أن يبلغوه مأمنه من أرض الحرب لأنه حصل أمناً في المعسكر فإن الأمان شرط يثبت بوجود القبول ولا يتأخر إلى أداء المقبول بمنزلة العتق بجعل. فإنه لو أعتق عبده على أن يؤدي إليه ألف درهم فقبل كان العتق واقعاً وإن لم يؤد فها هنا الأمان يثبت له أيضاً إذا نزل عن منعته على أن يدل. فسواء وفى بما قال أو لم يف كان هو في أمان من المسلمين فيبلغوه مأمنه. فإن قال المسلمون: إنما أمناه على أن يدلنا ولم يف بالشرط قيل لهم: إنه لم يقل لكم: إني إن لم أدلكم فلا أمان بيني وبينكم. وهذا تنصيص من محمد رحمه الله على أن مفهوم الشرط ليس بحجة وهو المذهب عندنا. وقد حكاه الكرخي عن أبي يوسف رحمه الله في قوله تعالى: أنه لا يدل على أنه لا يدرأ عنها العذاب إن لم تشهد. وقال تعالى: وهذا لا يدل على أنها إذا أتت بالفاحشة ولم تحصن أنه لا يلزمها ذلك العذاب. وهذا لأن مفهوم الشرط كمفهوم الصفة. وذلك ليس بحجة. قال الله تعالى: وهذا يدل على إباحة الظلم في غير الأشهر الحرم. فكذلك قولهم: أمناك على أن تدلنا لا يكون دليلاً على أنه لا أمان لك إن لم تدلنا لأن ذلك محتمل والمحتمل لا يعارض المنصوص ولا يدفع حكمه إلا أن ينص فيقول: على أني إن لم أدلكم عليهم فلا أمان بيني وبينكم. فحينئذ هذا نص يصلح معارضاً لذلك النص. وفي النبذ حل القتل والاسترقاق وذلك من باب الإطلاق يحتمل التعليق بالشرط فإذا لم يدل لم يكن له أمان وللإمام الخيار إن شاء قتله وإن شاء جعله فيئاً. ونظير هذا ما لو كفل بنفس رجل إلى شهر لم يبرأ بمضي الشهر ما لم يسلم نفس الخصم إليه. وإن قال: على أني بريء من الكفالة بعد شهر كان على ما قال. ولو كان هذا الرجل أسيراً في أيدينا وقال: تؤمنوني على أن أدلكم على مائة رأس والمسألة بحالها ثم لم يدلهم فللإمام أن يقتله لأنه صار مقهوراً في أيدينا وحل للإمام قتله واسترقاقه. وإنما علق على إزالة ذلك عنه بالدلالة ولم يفعل. ففي الأول كان في منعته وإن كان محصوراً فإنما نزل على أمان فأخذه من المسلمين والتزم لهم بمقابلة ذلك دلالة فيها منفعة للمسلمين. فإذا لم يف بما التزم كان على الإمام أن يبلغه مأمنه وفي الحقيقة لا فرق بين الفصلين فإنه إذا لم يدل على ما كان عليه قبل هذا الالتزام في الوجهين إلا أن هذا الأسير قبل هذا الالتزام كان مباح القتل والاسترقاق في أيدينا فيعود كما كان. والمحصور قبل هذا الالتزام كان في منعته فإذا لم يف بما التزم وجبت إعادته إلى منعته كما كان. وإن كان المحصور قال: إني إن لم أدلكم كنت لكم فيئاً. أو قال: رقيقاً لم يف بالشرط. فهو فيء للمسلمين وليس للإمام أن يقتله لأنه لو لم يقل هذه الزيادة كان آمناً من القتل والاسترقاق وإن لم يف بالشرط. فهذه الزيادة دليل معارض الكلام الأول في رفع حكمه. وإنما يعمل المعارض بحسب الدليل. ولأنه شرط إزالة ذلك الأمان في حكم الاسترقاق خاصة دون القتل وفي هذا الشرط منفعة فيجب مراعاتها. وكذلك لو قال: على أني إن لم أف كنت ذمة لكم فهو كما قال: وإذا لم يف بالشرط فهو ذمة لا يقتلونه ولا يسترقونه لأن الوفاء بالشرط واجب. ولو قال: أمنونا حتى يفتح لكم الحصن فتدخلون على أن تعرضوا علينا الإسلام فنسلم ثم أبوا أن يسلموا فهم منون وعلى المسلمين أن يخرجوا من حصنهم حتى يعودوا ممتنعين كما كانوا ثم ينبذون إليهم لأنهم استفادوا الأمان بقبول الشرط قبل الوفاء به. ثم لا يبطل حكم الأمان بالامتناع من الوفاء بما وعدوا وبحكم الأمان يجب إعادتهم إلى مأمنهم ثم النبذ إليهم. فإن شرط المسلمون عليهم: إنكم إن أبيتم الإسلام فلا أمان بيننا وبينكم. فرفضوا ذلك والمسألة بحالها فلا بأس باسترقاقهم وقتل المقاتلة منهم إذا أبوا أن يسلموا لأن الشرط هكذا كان وفيما يجري بيننا وبينهم الواجب الوفاء بالشرط فقط. والدليل عليه حديث بني أبي الحقيق حيث قال رسول الله: " وبرئت منكم الذمة إن كتمتموني شيئاً ". فقبلوا ذلك ثم ظهر ذلك عليهم فاستخار قتلهم استرقاقهم. وقد بينا قصة ذلك. وقد روي أن رجلاً من المشركين بعد وقعه أحد حين رجع الجيش ضل الطريق فدخل المدينة وجاء إلى بيت عثمان بن عفان رضي الله عنه سراً. وكن بينها قرابة. فأتى عثمان النبي صلى الله عليه وسلم وسأل له الأمان. فقال: " قد أمناه على أنا إن أدركناه بعد ثالثة فقد حل دمه ". فخرج الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اطلبوه فإني أرجو أن تجدوه ". فوجدوه بعد ثالثة قد سلط الله عليه النوم. فأخذ فقتل. فبهذا تبين أن الشرط المنصوص عليه في الأمان معتبر وإن كان ذلك يرجع إلى النبذ وإباحة القتل. ولو أسلم بعضهم وأبى البعض كان من أسلم منهم حراً لا سبيل عليه ومن أبى الإسلام فهو فيء اعتباراً للبعض بالكل. وهذا لأن الجميع المضاف إلى جماعة يتناول كل واحد منهم على الانفراد بدليل قوله تعالى: فكان هذا بمنزلة ما لو شرطنا على كل واحد منهم: إنك إن أبيت الإسلام فلا أمان بيننا وبينك. وكذلك لو أن واحداً من المحصورين قال: أمنوني على أن أنزل إليكم فأسلم ثم أبى أن يسلم يرد إلى حصنه لأنه أمن عندنا. وفي مثل حاله قال تعالى: وإن شرطوا عليه: إنك إن أبيت الإسلام فلا أمان بيننا وبينك ثم أبى الإسلام. فهو فيء للمسلمين لأن الشرط هكذا جرى بيننا وبينه. فإن جعله الإمام فيئاً بعد ما عرض عليه الإسلام فأبى ثم أسلم لم يقبله بعد إسلامه ولكنه يجعله فيئاً لأن حكم ذلك الأمان انتهى حين أبى الإسلام بعدما عرض عليه ويبقى هو أسيراً في أيدينا فإذا أسلم لم يقتل وكان فيئاً وهذا إذا حكم عليه بأنه فيء بعد ما أبى الإسلام فإن جعل الإمام يدعوه إلى الإسلام وهو يأبى إلا أنه لم يحكم عليه بأنه فيء حين أسلم ففي القياس هو فيء لأن شرط انتباذ الأمان قد تحقق بإبائه الإسلام والمتعلق بالشرط يثبت بوجود الشرط وبمنزلة الطلاق والعتاق إذا علق بالشرط. وفي الاستحسان: هو حر مسلم لأن الإباء متردد محتمل قد يكون لكراهة الإسلام فهو إباء حقيقة. وقد يكون للتأمل فيه إلى أن تزول الشبهة عن قلبه فلا تعين جهة الإباء إلا بحكم الحكم. ألا ترى أنه إذا أسلم أحد الزوجين في دارنا فإن الفرقة تتوقف على إباء الآخر الإسلام. ثم لا يتحقق ذلك إلا بقضاء القاضي. وكذلك النكول في باب الأموال بمنزلة الإقرار شرعاً ولا يثبت ذلك إلا بقضاء القاضي. ولو لم يأب الإسلام ولكن قال: دعوني حتى أنظر في أمري فإن الإمام يؤجله ثلاثة أيام لا يزيد على ذلك لأن التأمل وإزالة الشبهة يحتاج إلى مدة فإذا طلب ذلك من الإمام أجله ثلاثة أيام. فإنها مدة تامة للنظر بدليل خيار الشرط. والأصل فيه المرتد فإنه إذا استمهل النظر في أمره أمهله ثلاثة أيام. ورد به حديث عن عمر حين قدم عليه رجل من قبل أبي موسى فسأله عن الناس فأخبره ثم قال: هل عندكم من مغربة خبر - يعني أمر حادث وخبر غريب - فقال: نعم رجل كفر بعد إسلامه. فقال: ماذا فعلتم به فقال: قربناه فضربنا عنقه. قال: فهلا طينتم عليه بيتاً ثلاثاً وأطعمتموه كل يوم رغيفاً وأسقيتموه فلعله أن يتوب ويراجع أمر الله اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذا بلغني وبظاهره يأخذ الشافعي رحمه الله ويقول: يجب تأجيله شرعاً طلب ذلك أو لم يطلبه. فتأويله عندنا أنه كان استمهلهم فأبوا فلهذا أنكره عمر رضي الله عنه وإذا كان المرتد وقف على محاسن الشريعة يؤجل ثلاثة أيام فهذا الذي لم يقف عليها أصلاً أحرى أن يؤجل. فإن سكت حين عرض عليه الإسلام ولم يجب بقبول أو برد. فإن الإمام يعرض عليه الإسلام ثلاث مرات ويخبره في كل مرة أنه إن لم يجبه حكم عليه أنه فيء. وهذا لأن سكوته إباء منه للإسلام. إلا أنه محتمل في نفسه فيكرر عليه العرض ثلاث مرات لإبلاء العذر ويخبره في كل مرة على سبيل الإنذار. فإن أبى حكم عليه بأنه فيء. وهو بمنزلة الخصم إذا سكت عن الجواب في مجلس القاضي جعله منكراً وإذا سكت عن اليمين بعدما طلب منه جعله ناكلاً وعرض عليه اليمين ثلاثاً وأخبره في كل مرة أنه يحكم عليه إن لم يحلف ثم يحكم بعد الثالثة. ولو كان قال: حين أراد النزول: أمنوني على أن تعرضوا علي الإسلام. فإن أسلمت فيما بيني وبين ثلاثة أيام وإلا فلا أمان بيني وبينكم. ثم عرضوا عليه الإسلام فله مهلة ثلاثة أيام ولياليها من حين عرضوا عليه الإسلام لأنه شرط ذلك لنفسه. فإنه بين أنه يسلم بعدما يعرض عليه الإسلام واستمهل في ذلك ثلاثة أيام. فعرفنا أن ابتداء المدة من ساعة العرض. وذكر أحد العددين من الأيام والليالي بعبارة الجمع يقتضي دخول ما بإزائه من العدد الأخر. فإن مضت المدة قبل أن يسلم كان فيئاً ولا حاجة إلى حكم الحاكم لأن الشرط هكذا جرى. فاشتراط الحكم عند الإطلاق ليتميز به التأمل من الإباء وقد حصل ذلك بالمدة هنا. ثم التوقيت نصاً يمنع أن يكون لما بعد مضي الوقت حكم ما قبله كما في الإجازة. وإن كان لم يقل: وإلا فلا أمان بيني وبينكم والمسألة بحالها فإنه يرد إلى مأمنه بعد مضي ثلاثة أيام شرط للتروي والنظر لا للأمان. فبعد مضيها يتحقق الإباء. ولكنه أمن حين لم يشترط عليه نبذ الأمان بعد الإباء فيجب تبليغه مأمنه من حصنه. وإن كانوا قد افتتحوا حصنه بلغوه أدنى مأمن له من أرض الحرب ثم حل قتاله وإن كان قال: فإن أسلمت فيما بيني وبين ثلاثة أيام وإلا كنت عبداً لكم. فإن أسلم فهو حر لا سبيل عليه وإن مضت المدة قبل أن يسلم كان فيئاَ يقسم مع الغنيمة ولا يقتل لأن الشرط هكذا كان. وكذلك لو قال: وإلا كنت ذمة لكم. أو قال ذلك جميع أهل الحصن ثم مضت المدة قبل أن يسلموا فهم ذمة للمسلمين. كما التزموه بالشرط. ولو قال المحصور للمسلمين: تؤمنوني على أن أنزل إليكم فأدلكم على قرية فيها مائة رأس فقال المسلمون: إن دللتنا على قرية فيها مائة رأس فأنت آمن. ورضي بذلك ونزل. ثم جاء بهم إلى قرية لا شيء فيها. فقال: قد كانوا هنا وذهبوا فهو فيء للمسلمين وليس له أن يقول: ردوني إلى مأمني بخلاف ما سبق لأن المسلمين علقوا الأمان له بالشرط وهو الدلالة والمتعلق بالشرط معدوم قبل الشرط وفي الأول أوجبوا له الأمان على أن يدل وقد قبل ذلك فيكون آمناً دل أو لم يدل. ألا ترى أن من قال لعبده: أنت إن أديت إلي ألفاً فأنت حر. فقبل ذلك فإنه لا يعتق ما لم يؤد. ولو قال: أنت حر على أن تعطيني ألف درهم. فقبل فهو حر أدى أو لم يؤد. فكذلك هاهنا. وكذلك لو قال له: إن نزلت وسلمت فأنت آمن. ثم نزل ولم يسلم فهو فيء لأن قولهم: فأسلمت معطوف على الشرط فيكون شرطاً. وإنما علقوا أمانه بشرط أن يسلم. فإذا لم يسلم لم يكن له أمان. وإذا قالوا: أنت آمن على أن تنزل فتسلم. فهو آمن بعد النزول قبل أن يسلم. فيجب أن تبلغه مأمنه وإن أبى الإسلام. وعلى هذا لو قالوا: أنت آمن على أن تنزل فتعطينا مائة دينار فقبل ذلك ونزل ثم أبى أن يعطي الدنانير فإنه يكون آمناً. بخلاف ما لو قالوا: إن نزلت فأعطيتنا مائة دينار فأنت آمن لأن هنا الأمان معلق بشرط أداء الدنانير وفي الأول بشرط أداء القبول. فإذا نزل وقبل كان آمناً وكانت الدنانير عليه فإذا أبى أن يعطيها أو قال: ليست عندي حبس حتى يؤديها ولا يكون فيئاً لأجل الأمان الثابت له. فمتى ما أعطى الدنانير وجب تخلية سبيله حتى يلحق بمأمنه. وإن أبى أن يعطيه حتى يخرجه الإمام مع نفسه إلى دار الإسلام ثم أعطاها يخلى سبيله حتى يرجع إلى مأمنه لأنه في أمان وقد كان محبوساً في دين عليه فإذا قضى الدين لم يبق لنا عليه سبيل. وإن طال مكثه في دارنا ولم يعط الدنانير جعله الإمام ذمة لأن الكافر لا يتمكن من إطالة المقام في دارنا بدون صغار الجزية ولأنه احتبس عندنا إلى أداء الدنانير وهو ممتنع عنه أو عاجز عن الأداء. والكافر إذا احتبس في دارنا تضرب عليه الجزية بمنزلة الرهن. فإذا جعله الإمام ذمة أخرجه من الحبس وأبطل عنه الدنانير لأن تلك الدنانير كان التزمها عوضاً عن أمان نفسه أو كن قد افتدى بها نفسه ليلحق بمأمنه. فإذا كان الأمان فقد استفاد ذلك بأقوى السببين وهو عقد الذمة أو الإسلام. إن أسلم فيسقط عنه أداؤها بمنزلة المكاتب إذا أعتقه المولى أو أم الولد إذا أعتقت بموت المولى وهي مكاتبة يسقط بدل الكتابة لوقوع الاستغناء عن أدائها. وإن كان فداء فقد انعدم المعنى الذي لأجله كان يفدي بها نفسه لأنه حين أسلم أو صار ذمياً فقد صار من أهل دارنا ممنوعاً من الرجوع إلى دار الحرب وإن أعطى الدنانير كغيره من أهل الذمة وإنما كان يفدي بها نفسه ليلحق بمأمنه. فإن قيل: لماذا لم يجعل المال عليه عوضاً عن رقبته حتى يطالب به بعد عقد الذمة بسلامة رقبته له قلنا: لأنه لم يكن عبداً للمسلمين قط وإنما يكون المال عوضاً عن رقبته إذا كان عبداً في وقت فعتق بذلك المال. وكذلك لو صالحوه على أن يعطيهم رأساً فعليه رأس وسط أو قيمته دراهم أو دنانير لأن ما يلزمه بطريق الفداء لا يكون عوضاً عن مال. والرأس المطلق في مثله يثبت مقيداً بالوسط متردداً بين القيمة والعين كما في بدل الخلع والصلح عن دم العمد. فإذا أعطى ما التزم ولم يفتح حصنه بعد فأراد أن يذهب إلى موضع آخر لم يمنع من ذلك. وله أن يذهب حيث شاء من أرض الحرب لأنا عرفنا أنه نزل من الحصن وفدى نفسه بالمال لا ليعود إلى الحصن بل ليأمن مما كان خائفاً منه في الحصن. وإنما يتم له ذلك إذا تمكن من الذهاب إلى حيث شاء من أرض الحرب. فإذا بلغ مأمنه منها حل قتله لأن مقصوده قد تم حين وصل إلى منعة أخرى. فينتهي الأمان الذي كان بينه وبين المسلمين. إلا أن يكون قد اشترط على المسلمين أنه آمن منهم حتى يخرجوا إلى دار الإسلام أو كذا كذا شهراً. فحينئذ يجب الوفاء له بذلك الشرط لأنا إنما نجعل الأمان منتهياً بيننا وبينه إذا وصل إلى مأمنه لدلالة الحال وهو أنه كان خائفاً محصوراً وإنما قصد إزالة ذلك الخوف عن نفسه ويسقط اعتبار دلالة الحال إذا جاء التصريح بخلافها. وإذا لم يذكر شيئاً من هذه الشروط ثم اختار الرجوع إلى حصنه فرجع حتى صار فيه ممتنعاً فقد خرج من أمان المسلمين أيضاً لأنه وصل إلى منعته باختياره وذلك سبب لانتهاء الأمان. إلا أن يكون شرط أنه آمن كذا كذا شهراً أو حتى ينصرف المسلمون إلى دار الإسلام فحينئذ هو آمن. وإن دخل الحصن لبقاء مدة الأمان بمنزلة ما لو التحق بمنعة أخرى. فإن ظهر المسلمون على الحصن خلوا سبيله لبقاء مدة الأمان. إلا أن يكون قاتل المسلمين حين رجع إلى الحصن. فحينئذ يكون فيئاً لأنه بمباشرة القتال في مأمنه يصير ناقضاً للأمان الذي كان له منا ولا حكم للأمان بعد النقض في حرمة القتل والاسترقاق. وإن قال للمسلمين: أمنوني على أن أنزل إليكم فأعطيكم مائة دينار فإن لم أعطكم فلا أمان بيني وبينكم. أو قال: إن نزلت إليكم فأعطيتكم مائة دينار فأنا آمن. ثم نزل فطالبوه فأبى أن يعطيهم. فهو فيء في القياس. لوجود شرط انتباذ الأمان في أحد الفصلين وانعدام شرط الأمان في الفصل الثاني. وفي الاستحسان: لا يكوون فيئاً حتى يرفع إلى الإمام فيأمره بالأداء وإن أبى حكم عليه بأن يجعله فيئاً. لما بينا أن في امتناعه من الأداء لما طلب منه احتمال المعاني فلا تتعين جهة الإباء إلا بحكم الحاكم. أرأيت لو قال لهم: لا أعطيكم وإنما أعطي الأمير. أو قال: لا أعطيكم إلا بشهود. أكان فيئاً بهذا الامتناع ليعلم أن القول بالقياس في هذا قبيح. ولو رفعوه إلى الإمام فقال: هات المائة الدينار فقال: أجلني فيها حتى أنحلها لها. فلا بأس للإمام أن يؤجله يومين أو ثلاثة لأنه ليس في هذا القدر كثير ضرر على المسلمين وفيه منفعة له والإمام مأمور بالنظر في كل جانب. ألا ترى أن من لزمه الدين إذا استمهل هذا القدر من المدة أمهله الحاكم ولم يحبسه. فهذا الذي يفدي نفسه بالمال أولى بأن يمهله ولا يعجله. وإن كان قال: تؤمنوني على أن أنزل إليكم فأعطيكم رأساً أو مائة دينار ما بيني وبين ثلاثة أيام فنزل فهو آمن ولا سبيل عليه حتى يمضي الوقت لأنه شرط هذه المدة مهلة لنفسه. فلا يحبس قبل مضيها. كما لا يحبس من عليه الدين المؤجل فإن مضت المدة فهو آمن لقبوله. ولكن يحبس حتى يؤدي ما التزم به إلا أن يسلم أو يصير ذمة فحينئذ يبطل المال عنه. لما بينا من الطريقين فيه. ولو قال: تؤمنوني على أن أعطيكم مائة دينار على أن أجل كذا. فإن لم أعطكم فلا أمان بيني وبينكم. أو قال: إن أعطيتكم إلى أجل كذا فأنا آمن. ثم لم يعطهم حتى مضى الأجل. فهو فيء ولا حاجة إلى قضاء القاضي هاهنا لأنه صرح باشتراط الوقت لنفسه فلا يزاد على الوقت الذي صرح به. ولو شرطنا قضاء القاضي بعد مضي الوقت كان زيادة على الوقت. والزيادة على النص في معنى النسخ. ولو كان قال: تؤمنوني على أن أنزل فأدلكم على قرية فيها مائة رأس على أني إن لم أدلكم فلا أمان بيني وبينكم. ثم نزل فدلهم على قرية فيها مائة رأس قد أصابها المسلمون قبل هذا الأمان أو بعده قبل نزوله أو بعد نزوله قبل أن يدلهم فليست هذه بدلالة فإن دلهم على غيرها وإلا كان فيئاً. وكذلك لو علم المسلمون بها قبل دلالته ولم يصيبوها لأنه التزم دلالة فيها منفعة للمسلمين. وذلك لا يوجد إذا دل على ما كان معلوماً للمسلمين ولأن الدلالة إنما تتحقق إذا كان التوصل إلى المقصود بتلك الدلالة ووصول المسلمين إلى هذه القرية لم يكن بدلالته حين علموا بها قبل دلالته أصابوها أو لم يصيبوها. ألا ترى أن المحروم إذا دل على صيد كان المدلول عالماً بمكانه لم يكن ملتزماً للجزاء بهذه الدلالة. ولو كانوا خرجوا معه فدلهم على الطريق فجعلوا يسيرون أمامه حتى عرفوا مكانها قبل أن ينتهي إليها فيدلهم عليها. فهذه دلالة وهو آمن لا سبيل لهم عليه لأنهم إنما أخذوا في ذلك الطريق بدلالته. وإنما علموا بها حين أخذوا في ذلك الطريق فما يحصل لهم من العلم يكون مضافاً إلى أصل السبب وهو دلالته. ألا ترى أن دلالة المحرم على الصيد بهذا الطريق يتحقق حتى يلزمه جزاء الصيد. وكذلك لو وصف لهم مكانها ولم يذهب معهم فذهبوا بصفته حتى أصابوها فهو آمن لأن الدلالة هكذا تكون. فإن من يدل غيره على طريق قد يذهب معه وقد لا يذهب ولكن يصف الطريق له فيصير معلوماً بدلالته ويسمى دالاً عليه في الوجهين. وكذلك لو قال: أمنوني على أن أدلكم على بطريق بأهله وولده فإن لم أفعل فلا أمان لي عليكم. فلما نزل وجد المسلمين قد أصابوا بطريقاً فقال: هذا الذي أردت أن أدلكم عليه. فليس هذا بشيء لأنه التزم الدلالة على بطريق منكر حتى ينتفع المسلمون بدلالته ولا يحصل هذا المقصود بهذه الدلالة. وإن كان قال: على أن أدلكم على بطريق الحصن فإنه قد نزل هارباً من الحصن. ثم لما نزل وجد المسلمين قد أصابوا ذلك البطريق فهو آمن لا سبيل عليه لأنه التزم الدلالة على معرف معلوم بعينه أو بنسبه وقد دل عليه وهذا لأن في المعين لا يعتبر الوصف وفي غير المعين يعتبر. ألا ترى أن من قال: لا أكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما شاخ حنث في يمينه. ولو قال: لا أكلم شاباً فكلم شيخاً كان شاباً وقت يمينه لم يحنث. وحصول العلم للمسلمين بدلالته أو انتفاعهم بدلالته وصف معتبر في المشروط. فإنما يعتبر في غير المعين فأما في المعين فلا يعتبر شيء من ذلك. وعلى هذا لو التزم أن يدلهم على حصن أو مدينة فإن لم يعينها لا تعتبر دلالته على ما يعلم المسلمون بها وفي المعين: يعتبر ذلك. ثم في غير المعين: لو دلهم على شيء من ذلك قد كانوا يعرفونه في دخلوها أرض الحرب قبل هذه الدخلة إلا أن موضعها أشكل عليهم في هذه المدة فهو آمن لا سبيل عليه لأنهم توصلوا إليها بدلالته لا بما كان سبق من علمهم بها. ألا ترى أن المحرم في مثل هذا يكون دالاً على الصيد ملتزماً للجزاء ولأن المقصود دلالة فيها منفعة للمسلمين وقد وجد فإنهم انتفعوا بهذه الدلالة. فأما علمهم الذي سبق فما كان يوصلهم إلى هذه المنفعة بعدما اشتبه عليهم أو بعدما نسوها. فيتحقق منه الوفاء بالشرط عند هذه الدلالة. والله أعلم. ولو أن مسلماً في دار الحرب تزوج منهم كتابية وأخرجها إلى دار الإسلام فهي حرة. لا باعتبار أن النكاح أمان منه لها فإن أمان المسلم في دار الحرب باطل أسيراً كان أو تاجراً أو رجلاً أسلم منهم ولكن لأنها جاءت معه مجيء المستأمنات. فإنها جاءت للمقام في دارنا مع زوجها وهذه صفة المستأمنة. فإن أرادت أن ترجع إلى دار الحرب لم يكن لها ذلك لقيام النكاح بينها وبين المسلم. ولو أن المستأمنة في دارنا تزوجت لمسلم صارت ذمية فكذلك إذا بقيت في دارنا بنكاح مسلم. وهذا لأن المرأة تابعة للزوج في المقام والزوج من أهل دارنا فتصير هي من أهل دارنا تبعاً. وإن قال الزوج: قهرتها في دار الحرب وأخرجتها قهراً. وقالت المرأة: بل خرجت على النكاح ولم يقهرني. فهذا على ما يدل عليه الظاهر. فإن جاء بها مربوطة فالظاهر شاهد للزوج. فيكون القول قوله وهي له أمة. وإن جاءت معه غير مربوطة فالظاهر يشهد لها فتكون حرة ذمية إلا أنه لا نكاح بينها وبين الزوج لإقراره بما يبطل النكاح وهو الملك بطريق القهر. فإن إقرار الزوج بما ينافي النكاح يبطله كما لو زعم أن زوجته قد أرتدت ونكرت هي فإن أقام بينة من المسلمين أو من أهل الذمة أنه قهرها في دار الحرب كانت أمة له لأنه أثبت سبب ملكه رقبتها بالحجة وهي ذمية في الظاهر لإقرارها أنها في نكاح مسلم في دار الإسلام وشهادة أهل الذمة على الذمية تقبل. ثم إن كان المسلم مستأمناً في دار الحرب كره له ما صنع وأمر بأن يعتقها ويخلي سبيلها لأنه حين دخل عليهم بأمان فقد ضمن أن لا يغدر بهم وأن لا يتعرض لهم بشيء من ذلك. فيؤمر بالوفاء بما ضمن ولا يجبر عليه في الحكم لأنه غدر بأمان نفسه خاصة دون أمان المسلمين وذلك أمر بينه وبين ربه. وإن كان أسيراً فيهم أو كان أسلم منهم لم يؤمر بشيء من ذلك لأنه متمكن شرعاً من استرقاقهم وأخذ مالهم إذا قدر عليهم وقد بينا أن تزوجه إياها لا يكون أماناً منه لها ثم خمس فيها لأنه أخرجها على وجه التلصص. ولا يقبل على قهره إياها شهادة أهل الحرب من المستأمنين لأنها ذمية في الظاهر وقد تصادقا على أنها كانت زوجة له. وشهادة المستأمن بالرق على الذمية لا تقبل. وإن قالت: ما تزوجني ولا قهرني ولكنه أمنني فخرجت معه. فهي حرة إن خرجت طائعة لدلالة الحال ولا تكون زوجة له لأنه يدعي عليها النكاح وهي تنكر. ولو ادعى أنه تزوجها في دار الإسلام لم يقبل قوله إلا بحجة. فكذلك قولها إذا ادعت أنه تزوجها في دار الحرب. فإن أرادت الرجوع إلى دار الحرب تمنع من ذلك لأن النكاح لم يثبت حين أنكرت وبه تصير ذمية تابعة للرجل. وإن أقام الزوج البينة من المستأمنين في هذا الفصل على أنه قهرها في دار الحرب تقبل البينة لأنها مستأمنة في الظاهر وشهادة المستأمنين على المستأمنة بالرق مقبولة. وإن أخرجها معه مقيدة فهي أمة له ولا خمس فيها لأن الظاهر شاهد له. فإن لم يعلم أنه صنع بها هذا إلا في دار الإسلام ففي قول أبي حنيفة رحمه الله: هي فيء لجماعة المسلمين. لأنها لما أنكرت النكاح لم يثبت لها حكم الأمان في دارنا. فإن المستأمنة من تجيء للمقام في دارنا. ولا نعلم لذلك سبباً حين أنكرت النكاح فكانت حربية لا أمان لها في دارنا. ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله: أن الحربي إذا دخل دارنا بغير أمان فأخذه مسلم يكون فيئاً لجماعة المسلمين. وعندهما يكون للأخذ وفي إيجاب الخمس فيه روايتان. ولو أن ذمياً دخل دار الحرب بأمان فتزوج منهم امرأة أخرجها مع نفسه بعدما استأمن المسلمين عليها فهي حرة لأنها جاءت مجيء المستأمنات ولأن المسلمين أمنوها حين استأمن عليها. ثم تكون ذمية من أهل دارنا تبعاً لزوجها. بمنزلة ما إذا تزوجت المستأمنة ذمياً في دارنا فلا ترجع إلى دار الحرب. وإن أذن الزوج لها في ذلك أو طلقها فالاستئمان عليها ليس بشرط ولكنها إذا خرجت معه طائعة فهي آمنة لأنها جاءت للمقام مع زوجها وهو من أهل دارنا. فإن استأمن هذا الذمي على ابنته أو أخته فهي آمنة أيضاً لأن المسلمين أمنوها. ولأنها جاءت مجيء المستأمنات حين استأمن عليها. ولها أن ترجع إلى دار الحرب متى شاءت لأنها ليست بتابعة لأبيها أو أخيها الذمي فإنها بالغة. وإن أخرجها مع نفسه ولم يستأمن لها فهي فيء للمسلمين في قول أبي حنيفة لأنها جاءت مجيء المستأمنات فإنها ليست بتابعة له في المقام ولم يستأمن لها نصاً. وإن قال الذمي: قد كنت قهرتها في دار الحرب وأخرجتها. وكذبته ولا قرابة بينهما فإنه لا يصدق لأن ظاهر الحال يكذبه فيما قال. فإنها جاءت غير مربوطة معه وقد ثبت فيها حق جماعة المسلمين. فلا يصدق الذمي فيه في إبطال ذلك. وإن شهد له بذلك شهود من المسلمين كانت أمة له لأنه أثبت سبب الملك فيها بالحجة. ولا يقبل في ذلك شهادة أهل الذمة لأنها تقوم على المسلمين وقد صارت هي أمة له في الظاهر. وإن أخرجها مغلولة قد علم ذلك فالقول قوله لأن الظاهر شاهد له. وإن لم يعلم أنه قهرها إلا في دار الإسلام فعند أبي حنيفة رحمه الله: هي فيء لجماعة المسلمين. وعندهما هي له. ولكن يؤخذ منه الخمس. بمنزلة ما لو أصاب الذمي ركازاً في دار الإسلام فإنه يخمس وما بقي يكون له. ولو خرج علج من أهل الحرب مع مسلم إلى المعسكر فقال المسلم: أخذته أسيراً. وقال الحربي: جئت مستأمناً. فالقول قول الحربي لأنه جاء مجيء المستأمنين والظاهر شاهد له فإنه غير مقهور حين جاء معه لأن الواحد ينتصف من الواحد ألا ترى أنه لو جاء وحده هكذا كان آمناً فكذلك إذا جاء مع مسلم ولو كان جاء به وهو مكتوف أو مغلول أو في عنقه حبل يقوده فالقول قول المسلم لأن دلالة الحال تشهد له. وقد بينا أن في مثل هذا يحكم بدلال الحال. ولو كان هذا الحربي جاء مع عدد من المسلمين وهو مخلى عنه فقالوا: هو أسيرنا وقال الحربي: جئت مستأمناً معهم. فالقول قول المسلمين لأنه مقهور لجماعتهم لا يقدر على الانتصاف والتخلص منهم لو أراد ذلك. فهو بمنزلة المربوط ألا ترى أنهم لو كانوا مائة رجل قد أحدقوا به حتى صار لا يقدر على التخلص منهم فإنه يسبق إلى وهم كل أحد أنه أسير لا مستأمن فيكون فيئاً لجميع العسكر. وإن شهد مسلمان أنه جاء مستأمناً قبلت الشهادة لأن شهادة المسلمين حجة تامة على جماعة المسلمين. وإن لم يشهد به شاهدان ولكن أقر رجل واحد من القوم أنه جاء مستأمناً لم يصدق في ذلك لأن قول الواحد ليس بحجة في الحكم وشركتهم فيه شركة عامة فلا حكم لإقرار الواحد فيه إلا أن يقع في سهمه بالقسمة. قال: ولو أن مسلماً خرج من دار الحرب ومعه امرأة. فقال: ليست لي بزوجة ولكني أمنتها فأخرجتها على الأمان. فهي في القياس فيء لأن أمانه إياها في دار الحرب باطل لكونه مقهوراً في منعة أهل الحرب. وكما حصلت في دار الإسلام فقد صارت فيئاً مأخوذة بالدار. فلا يعمل أمانه في إبطال حق المسلمين عنها. وفي الاستحسان: هي حرة مستأمنة ترجع إلى دار الحرب متى شاءت لأنه لما خرج معها مستديماً لذلك الأمان صار بمنزلة المنشئ للأمان في أول جزء من أجزاء دار الإسلام. وإنما يثبت حق المسلمين فيها إذا حصلت في دارنا غير آمنة. وهي ما حصلت في دارنا إلا آمنة. فأدنى الدرجات أن يقترن أمان المسلم إياها بسبب ثبوت حق المسلمين فيها. وذلك يمنع ثبوت حقهم فيها. يوضحه: أنهما لما وصلا إلى الموضع الذي لا يأمن فيه المسلمون ولا أهل الحرب فقد خرجا من منعة أهل الحرب وصح أمان المسلم إياها في هذا الموضع. وهي لا تصير مأخوذة بدار الإسلام ما لم تصل إلى الموضع الذي يأمن فيه المسلمون. وهذا بخلاف ما لو أمنها ثم خرجت هي وحدها. لأن أمانه إياها في دار الحرب باطل وهو ليس معها في الموضع الذي يصح فيه الأمان حتى يجعل كالمنشئ للأمان في ذلك الموضع. فلهذا كانت فيئاً. ولو أن مسلماً في دار الحرب أمن جنداً عظيماً فخرجوا معه إلى دار الإسلام فظفر بهم المسلمون كانوا فيئاً لأن هذا المسلم ليس ممتنعاً منهم في دار الإسلام ولا في دار الحرب بل هو مقهور في الموضعين بمنعتهم. فيكون أمانه لهم باطلاً. ألا ترى أن هذا العسكر لو دخلوا دار الإسلام فدخل إليهم مسلم بأمان ثم أمنهم كان ذلك باطلاً لأنه غير ممتنع منهم فكذلك إذا خرج معهم من دار الحرب مستديماً لذلك الأمان بخلاف مالو أمن واحداً منهم وخرج معه لأن الواحد لا يكون مقهوراً بالواحد بل يمتنع منه وينتصف في الظاهر فيصح أمانه له كما لو دخلا دار الإسلام. ولو كان أمن في دار الحرب عشرين رجلاً منهم ثم خرج معهم إلى دار الإسلام فهم آمنون. بمنزلة ما لو أنشأ الأمان لهذا العدد في دار الإسلام ابتداء. فإن قيل: هو غير ممتنع من هذا العدد أيضاً بل هو مقهور بهم في الظاهر فينبغي أن لا يصح أمانه. قلنا: نعم هو مقهور باعتبار نفسه ولكنه قاهر ممتنع بقوة المسلمين. لأن هؤلاء لا يمتنعون من جماعة المسلمين والقوة للمسلم في دار الإسلام بجماعة المسلمين فإذا لم يكونوا ممتنعين من جماعة المسلمين كأن هذا الرجل قاهراً لهم في دار الإسلام حكماً لا مقهوراً بهم فيصح أمانه لهم بخلاف الجند فإنهم ممتنعون من أهل دار الإسلام بشوكتهم فيكون هو مقهوراً فيهم في دارنا كما في دار الحرب. ألا ترى أن القوم الذين لا منعة لهم لو دخلوا دارنا بغير أمان وأخذهم قوم من المسلمين كانوا فيئاً لجماعة المسلمين ولو أن جنداً عظيماً منهم دخلوا دارانا فقاتلهم قوم من المسلمين حتى قهروهم كانوا لهم خاصة. وما كان الفرق إلا بهذا. إن الذين لهم منعة ما صاروا مقهورين بحصولهم في دار الإسلام بخلاف الذين لا منعة لهم. ثم تحقق ما قلنا: إنهم إذا لم يكونوا ممتنعين من جماعة المسلمين فلو لم يجعل أمان الواحد الذي جاء معهم صحيحاً أدى إلى الغرور لأنهم فارقوا منعتهم بناء على ذلك الأمان وفي الجند لا يؤدي إلى هذا. لأنهم ما فارقوا منعتهم بناء على أمانه بل هم ممتنعون بشوكتهم في دارنا كما في دار الحرب. وعلى هذا لو أخرجهم هذا المسلم إلى عسكر المسلمين في دار الحرب فإن كانوا بحيث لا يمتنعون من العسكر فهم آمنون. لأن قوة العسكر في هذا الموضع بعسكر المسلمين فيكون قاهراً لا مقهوراً إذا وصل إلى عسكر المسلمين. وإن كانوا بحيث يمتنعون من العسكر لكثرتهم فأمانه لهم باطل وإن خرج معهم لما بينا. ولو كان المسلمون حاصروا حصناً وفيهم مسلم فأمن قوماً لا منعة لهم وأخرجهم معه إلى العسكر لم يكونوا آمنين بخلاف الأول لأن المحصورين قد صاروا مقهورين من وجه فحالهم كحال المأسورين فلا يصح أمان المسلم لهم إذا كان فيهم لما فيه من إبطال حق المسلمين عليهم بخلاف الأول ولأنه لو جاز هذا الأمان لم يقدر المسلمون على قهرهم بحال فإنهم إذا أيقنوا بالقهر أسلم بعضهم ثم أمنهم على أن يخرج مع كل نفر منهم ولا يجوز القول بما يؤدي إلى سد يوضحه: أن يد المسلمين إلى المحصورين سابقة على قوة هذا المسلم الخارج معهم فلا يبطل باعتبار هذه القوة حكم اليد السابقة. بخلاف جميع ما سبق. ولو أن حربية أسلمت وزوجها حربي فهما على نكاحهما حتى تحيض ثلاث حيض لأن يد الإمام لا تصل إلى الزوج لتعرض عليه الإسلام فتجعل ثلاث حيض قائمة مقام ثلاث عرضات باعتبار أنها مؤثرة في الفرقة بينهما إذا صار غير مريد لها كما بعد الطلاق. وبإصراره على الكفر يعلم أنه غير مريد لها. فإن لم تحض حتى خرجا إلى دار الإسلام كان الرجل فيئاً للمسلمين لأنه خرج لا على وجه الاستئمان ولكن يبقى النكاح بينهما لأن الرق الذي ثبت فيه لا ينافي ابتداء النكاح فيما بينهما ولا ينافي بقاء النكاح أيضاً. وإنما الموجب للفرقة تباين الدارين ولم يوجد ذلك فالرجل لما صار عبداً للمسلمين كان من أهل دارنا. ثم لا تقع الفرقة بينهما وإن حاضت ثلاث حيض حتى يعرض عليه الإسلام لأن الحيض كانت خلفاً عن عرض الإسلام باعتبار تعذر عرض الإسلام عليه وقد زال قبل حصول المقصود به. والقدرة على الأصل قبل حصول المقصود بالخلف يسقط اعتبار الخلف. فلهذا يعرض عليه الإسلام. فإن أسلم فهي امرأته وإن أبى فرق بينهما. ولو كان الزوج هو الذي أسلم وهي من غير أهل الكتاب ثم خرجا إلى دارنا قبل أن تحيض شيئاً فهي امرأة آمنة حرة لا سبيل عليها لأنها جاءت مجيء المستأمنات. فإنها تابعة للزوج في المقام ومن جاءت للمقام في دارنا كانت مستأمنة. فأما الرجل فليس بتابع لامرأته في المقام وهو إنما جاء مغتراً لا مستأمناً إذ لم يطلب الأمان ولم يظهر منه علامة لذلك. ثم إن كانت من أهل الكتاب فهي ذمية لأن النكاح بينهما مستقر وذلك يلزمها المقام في دارنا مع زوجها. وإن كانت من غير أهل الكتاب فالنكاح بينهما غير مستقر فلا تصير ذمية ولكن يعرض عليها الإسلام فإن أسلمت وإلا فرق بينهما وكان لها أن ترجع إلى دار الحرب لأنها مستأمنة. وقد بينا في كتاب الطلاق اختلاف الروايات فيما إذا أسلم أحد الزوجين المستأمنين في دارنا أن في وفي الرواية الأخرى أي الأمرين يسبق إما عرض الإسلام على المصر منها أو مضي ثلاث حيض تقع الفرقة به. وعليه نص هاهنا لأنهما تحت يد الإمام في الحقيقة فيتمكن من عرض الإسلام والمصر من أهل دار الحرب حكماً فتقع الفرقة بينهما بمضي ثلاث حيض. فإن لم تسلم ولكنها تحولت إلى دين أهل الكتاب فقد تقرر النكاح بينهما بمنزلة ما لو كانت كتابية في الأصل فتكون ذمية. وأشار إلى الفرق بين إسلام الزوج وإسلام المرأة فقال محمد رحمه الله: الزوج ليس من عيال امرأته إذا أسلمت والمرأة من عيال الزوج إذا أسلم فتكون آمنة إذا خرجت معه. ألا ترى أن حربياً لو استأمن إلى دار الإسلام فأخرج معه امرأته كانت آمنة فكذلك إذا أسلم ولو أن امرأة منهم استأمنت ثم أخرجت معها زوجها لم يكن آمناً تبعاً لها فكذلك إذا أسلمت. ولو كانت التي أسلمت أمنت زوجها على أن أخرجته إلى دارنا فخرج معها كان آمناً لما بينا أن استدامة ذلك الأمان حين حصلا في دارنا بمنزلة الإنشاء. فإن قالت هي: أمنته وأخرجته معي. وقال المسلمون: خرج معك بغير أمان. فالقول قولها لأن الظاهر شاهد لها. فقد علم أنه خرج معها وهو لا يخرج معها مصراً على الكفر إلا بأمانها. البناء على الظاهر واجب يما لا يمكن الوقوف على حقيقة الحال فيه. ولو أسلم رجل من المحصورين وأخرج معه امرأته وهي كافرة كانت فيئاً للمسلمين لأنه لو استأمن وهو محصور فخرج بأمان لم تتبعه زوجته فكذلك إذا أسلم. وكذلك لو أسلمت المرأة وأمنت زوجها فخرج معها لأن أمانها إياه في منفعة أهل الحرب بالطل وهو كما لا يأمن تبعاً لها في الأمان لا يأمن بأيمانها أيضاً. بخلاف ما لو لم يكن محصوراً فاستأمن إلى عسكر المسلمين أو إلى دار الإسلام فإنه تتبعه زوجته والصغار من أولاده والكبار من الإناث لأن حكم القهر لم يتناولهم هناك. وقد يتناول المحصورين فيؤثر أمانه وأيمانه في إزالة القهر عنه خاصة. ولو أن ذمياً تزوج امرأة في دار الحرب وأخرجها مع نفسه فهي حرة ذمية لأن عقد الذمية أقوى من عقد الأمان. ولو خرج مستأمناً مع زوجته كانت حرة آمنة فإذا خرج وهو ذمي مع زوجته فأولى أن تكون أمنة ثم هي تابعة لمن هو من أهل دارنا في المقام وهو الذمي فتصير ذمية. ولو خرج الذمي بابنة له كبيرة أو أخت من أهل الحرب كانت فيئاً. إلا أن يكون استأمن عليها لأنها ليست بتابعة له في المقام في دار الإسلام فلا يكون خروجها معه دليل الاستئمان بخلاف الزوجة. فإن قيل: أليس أن المستأمن لو أخرج مع نفسه ابنته أو أخته كانت آمنة معه وكان ينبغي أن يكون الحكم في الذمي هكذا قلنا: هناك الزوجة التي هي تابعة له لا تصير ممنوعة من الرجوع إلى دار الحرب بمنزلة المستأمن نفسه ويمكن إثبات مثل هذا الحكم في الابنة والأخت أيضاً. وباعتبار الظاهر هو يعولهما كما يعول زوجته. فأما الذمي فتصير زوجته ذمية ممنوعة من الرجوع إلى دار الحرب ولا يمكن إثبات مثل هذا الحكم في حق الابنة والأخت لانعدام التبعية في حق الاحتباس في دارنا. ولا يجوز أن يثبت في التابع حكم آخر سوى الثابت فيمن هو أصل. ولو أخرج الذمي معه امرأة وقال: هي امرأتي وصدقته. كانت امرأته حرة وإن لم يعرف ذلك إلا بقولهما لأنهما تصادقا على ذلك والظاهر أنهما لا يجدان في دار الإسلام شهوداً على نكاح كان بينهما في دار الحرب. فلأجل الضرورة يقبل قولهما إذا لم يكن هناك من ينازعهما. ألا ترى أنه لو أخرج معه برجال ونساء وقال: هم عبيدي وإمائي وصدقوه. قبل قولهم في ذلك. وكذلك لو خرج مستأمناً فهو مصدق فيما يدعي من ذلك إذا صدقه المدعي عليه لهذا المعنى. وإن كذبته المرأة وقالت: لا نكاح بيني وبينه ولا قرابة كانت فيئاً لأن السبب الموجب للتبعية لم يثبت عند تكذيبهما فتبقى حربية في دارنا لا أمان لها فكانت فيئاً. ولو أن مسلماً خرج من دار الحرب ومعه رجل أو امرأة وقال: هذا مملوكي أو هذه مملوكتي. وقال الآخر: ليس كذا ولكنه أمننا فخرجنا معه. ففي القياس: هما فيء لأن ما ادعى هو من الملك قد انتفى بتكذيبهما وما ادعيا من الأمان قد انتفى بإنكاره. وفي الاستحسان: هما حران مستأمنان يرجعان إذا أحبا لأنهما مع الاختلاف تصادقا على أنه لا سبيل للمسلمين عليهما. والأسباب مطلوبة لأحكامها لا لأعيانها فبعد الاتفاق على الحكم لا يعتبر الاختلاف في السبب. يوضحه: أن اختلاف السبب في الصورة فأما في المعنى فالسبب واحد وهو الأمان الثابت لهما تبعاً أو مقصوداً. فهو بمنزلة ما لو أقر أن لفلان عليه ألف درهم قرضاً وقال المقر له: هي غصب. فإن المال يلزمه لهذا المعنى. ولو كان الذي أخرجهما ذمي أو حربي مستأمن وقال: هي امرأتي. فقالت المرأة: لست بزوجة له ولكنه أمنني فأخرجني كانت فيئاً للمسلمين لأن النكاح لم يثبت لإنكارها وقد زعمت أنها خرجت بأمان الذمي أو الحربي وذلك باطل. ولو خرج حربي مع مسلمين فقال: أمنني هذان. وكذباه فهو فيء لأنه يدعي عليهما ما لا يعرف سببه فلا يصدق إلا بحجة. وقد ثبت حق المسلمين فيه باعتبار الظاهر لأنه حربي في دارنا لا أمان له فلا يصدق في إبطاله. فإن صدقه أحدهما فهو آمن يرجع إلى دار الحرب إن أحب لأن الأمان يثبت له من جهة من صدقه بتصادقهما وإن لم يثبت من جهة الآخر فكأنه ما ادعى إلا على هذا. وفي أمان الواحد كفاية له. وإن قال: أمنني هذا. وكذبه. وقال الآخر: أنا الذي أمنته. وكذبه الحربي وثبت كل واحد على مقالته فهو فيء لأن الأمان لم يثبت له من جهة من ادعاه حين كذبه ولا من جهة من أقر له لتكذيب الحربي إياه. فكان فيئاً. بمنزلة ما لو قال المسلم: أنا أمنتك. وقال الحربي: أبطلت بل كتب إلي من دار الإسلام رجل بالأمان. لم يصدق وكان فيئاً. وكذلك لو قال: أمني فلان المسلم. وهو غائب أو ميت لأن الأمان لم يثبت له بمجرد دعواه على الغالب والميت ومن أقر بالأمان. فقد كذبه الحربي في ذلك. وهذا بخلاف ما تقدم. فهناك الأمان من جهة واحد بعينه وإنما الاختلاف بينهما في السبب وهنا الاختلاف بينهما فيمن كان الأمان من جهته فلا يثبت واحد من الأمرين مع التكذيب ولو كان قال بعد هذا الذي أقر له بالأمان: صدقت أنت أمنتني وقد غلطت فيما قلت. ففي القياس: هو فيء لأن إقراره له قد بطل بالتكذيب فلا يعمل التصديق بعد ذلك. إذ الأمان عقد محتمل للفسخ والتصديق بعد التكذيب إنما يعتبر فيما لا يكون محتملاً للفسخ كالنسب والولاء. وفي الاستحسان: هو آمن إذا لم يصر على ذلك التكذيب لأن الغلط في هذا الباب قد يقع فإنه ما رأى من أمنه قبل هذا الوقت وبالمرة الواحدة قل ما تثبت معرفته. فإذا تبين له الغلط وجب اعتبار تصديقه لدفع الضرر بخلاف ما إذا ثبت على التكذيب بعد الاستثبات. لأن توهم الغلط هناك قد انتفى. وهو نظير ما لو قال الرجل لامرأة جالسة إلى جنبه: هي أختي من الرضاعة. ثم قال: غلطت هي امرأتي. كان مصدقاً في ذلك ولم يفرق بينهما. فإن ثبت على ذلك بعد الاستثبات ثم قال بعد ذلك: قد غلطت لا يصدق وفرق بينهما للمعنى الذي قلنا. ولو قال الحربي: ما أمنني أحد من المسلمين لكني خرجت بغير أمان بعدما قال له المسلم: أنا أمنتك ثم رجع إلى تصديقه لم يصدق وكان فيئاً لأنه ليس في هذا يوهم الغلط فأهم الأشياء عند الحربي الذي يخرج إلى دارنا هو الأمان. وبعدما خرج مسلم لا يشتبه عليه أصل الأمان. فبعد إنكار أصل الأمان لا يعتبر تصديقه بخلاف الأول فقد يقع الاشتباه له فيمن كان أمانه من جهته فلهذا يعتبر رجوعه إلى التصديق ويعذر بالغلط في ذلك. ولو خرج إلى دارنا رجل وامرأة من أهل الحرب فشهد مسلمان بأنهما خرجا بأمان بعض المسلمين وهما يقولان كذباً: ما أمننا أحد. ففي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: المرأة آمنة والرجل فيء لأنهما صارا رقيقين في الظاهر والشهادة على عتق الأمة مقبولة من غير الدعوى بالاتفاق وعلى عتق العبد كذلك في قولهما ولا يقبل في قول أبي حنيفة رحمه الله. فإن كانا ادعيا ذلك بعد الإنكار ثم شهد المسلمان به قبلت الشهادة لأن هذا تناقض في الدعوى. والتناقض لا يمنع قبول البينة على الحرية. وإن شهد لهما ذميان أو مستأمنان بذلك لم تقبل الشهادة لأنها تقوم على المسلمين. وبعد شهادة المسلمين لو أرادا الرجوع إلى دار الحرب لم يمنعا من ذلك لأنه قد ثبت بالحجة أنهما مستأمنان. فإن قيل: هما قد أقرا بالرق على أنفسهما في الابتداء فكيف يتركان ليرجعا حربيين قلنا: لأن الإمام قد حكم بكذبهما فيما قالا بالحجة والمقر إذا صار مكذباً في إقراره يسقط حكم إقراره. ولو قالا: خرجنا بغير أمان. فشهد لهما شاهدان بأنهما أسلما في دار الحرب قبل أن يخرجا وصدقا الشاهدين بذلك فإن كان الشاهدان مسلمين فهما حران وإن كانا من أهل الذمة فهما رقيقان للمسلمين لأن شهادة أهل الذمة لا تكون حجة على المسلمين وإسلامهما إنما ظهر بعدما صارا فيئاً فلا يبطل الرق عنها. ولو قالا للشاهدين المسلمين: كذبتما ما أسلمنا قط على الإسلام لأن شهادة المسلمين عليهما بالإسلام عليهما حجة تامة. فإن أسلما فهما حران. أما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: فهو غير مشكل وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأن في هذه الشهادة التزام حق على الرجل والمسلمون خصم في ذلك. فإنكاره لا يمنع قبوله البينة بمنزلة ما لو أنكر العتق وهناك من يدعي حقاً من حد قذف أو قصاص فيما دون النفس. وإن أبيا أن يسلما قتل الرجل وحبست المرأة حتى تسلم لأنه ثبت بالحجة أنها حران مرتدان. فلا يجري عليهما شيء في دارنا ولكن الحكم في المرتد والمرتدة ما بينا. وإن قالا: ما أسلمنا قط. وشهد الشاهدان أنهما أسلما يوم كذا في دار الحرب. فقالا: قد كنا على النصرانية في دار الحرب بعد هذا الوقت. فإنهما يجبران على الإسلام فإن أسلما فالرجل حر والمرأة فيء للمسلمين لأنه ظهر بإقرارهما ارتدادهما في دار الحرب وخروجهما إلى دارنا على ذلك. والمرتدة في دار الحرب تسترق ولا يبطل الرق عنهما بإسلامهما. وهذا بخلاف الأول فلم تظهر هناك الردة منهما بعدما ثبت إسلامهما إلا في دارنا. فإن قيل: هناك قد أقرا أيضاً أنهما كانا كافرين بعد الوقت الذي شهد فيه المسلمان عليهما بالإسلام. قلنا: نعم ولكنهما ما أقرا بكفر متجدد منهما في تلك الحالة ليجعل ذلك ردة إنما أنكرا أصل الشهادة. فأما هنا فقد أقرا بأنهما أظهرا كفراً حادثاً بعد الوقت الذي ثبت فيه إسلامها بالحجة في دار الحرب. فإن قيل: مع هذا في هذه الشهادة إثبات حرية المرأة فلماذا يعتبر قولهما حتى تجعل أمة بعدما شهد الشهود بحريتها. قلنا: لأن هذا إقرار منها بالرق على نفسها وإقرار المرأة بالرق مقبول بمنزلة اللقيط إذا كانت أنثى فأقرت بالرق. ولو أن حربية أسلمت في دار الحرب وعرف إسلامها ثم أخذت في الأسراء فقالت: قد ارتددت قبل أن تأخذوني. كانت فيئاً وصدقت لإقرارها على نفسها بالرق. وكذلك لو كانت مسلمة لحقت بدار الحرب ثم أخذت في الأسراء فزعمت أنها لحقت بدار الحرب مرتدة فهي أمة وإن كذبها أبوها فيما قالت لأنها أقرت على نفسها بالرق بسبب ظاهر. فإنها أخذت من دار الحرب وحكم الشرك ظاهر فيها. وكذلك لو أن ذمياً أو ذمية لحقتا بدار الحرب ثم أخذا فقالا: خرجنا ناقضين للعهد كان القول قولهما وكانا فيئاً لأنهما أقرا بالرق على أنفسهما. وكل هذا يوضح ما سبق أن شهادة المسلمين بأنها أسلمت في دار الحرب لا تمنع صحة إقرارها بالرق بعد ذلك بسبب ردتها في دار الحرب. ولو أن مسلمة في دار الإسلام حرة معروفة الأبوين تعلق بها رجل وقال: هي أمة لي فقالت: صدقت قد كنت ارتددت ولحقت بدار الحرب فسباني وأخرجني. فهي أمة له في القياس لأنها تصادقا على سبب يوجب الملك له فيها. فيجعل ما تصادقا عليه كالثابت بالمعاينة أو بالبينة. يوضحه: أنها تقر على نفسها بما يتلفها حكماً وهو الرق. ولو أقرت على نفسها بما يتلفها حقيقة من قصاص أو رجم وجب قبول قولها لأنها مخاطبة. فهنا أولى. وفي الاستحسان: لا تصدق وهي حرة لا سبيل عليها لأنها تقر بما لا تملك إنشاءه فإن حرية الأصل تثبت لها لحرية الأبوين على وجه لا تملك إبطاله. وهي متهمة فيما أقرت به من السبب فإن النساء جبلن على الميل إلى الهوى فلعلها أحبت هذا الرجل وهو لا يرغب فيها بالنكاح فأقرت له بالرق بهذا السبب كاذبة ليحصل مرادها. وهذا بخلاف ما إذا عرف لحاقها بدار الحرب لأن هناك الظاهر يشهد لهما فيما قالا. فإن المسلمة لا تلحق بدار الحرب ما دامت مصرة على الإسلام عادة. يوضحه: أن اعتقادها باطن لا يمكن الوقوف عليه فلا بد من قبول قولها فيه. فأما لحوقها بدار الحرب فظاهر يمكن الوقوف عليه فلا حاجة إلى قبول قولها في ذلك. تقريره: هو أن دار الحرب دار سبي واسترقاق. فإذا عرفت لحاقها فإنما أصابها من موضع الاسترقاق فتكون أمة له ما لم يظهر المانع وهو إسلامها عند الأخذ. فأما دار الإسلام فليس بدار استرقاق بل دار حرية متأكدة فلا تبطل بمجرد قولها إذا لم يعلم صدقها في ذلك. والذمية في هذا كالمسلمة. فما الحر الذمي إذا قال ذلك ولم يعرف صدقه ولحوقه بدار الحرب ناقضاً للعهد فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى هو والمرأة في ذلك سواء لأن عندهما معنى حق الله تعالى هو المعتبر في حرية الرجل كما في حرية المرأة ولهذا قبلا الشهادة فيه من غير دعوى. وفي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو عبد سواء عرف لحاقه أو لم يعرف. لأن معنى حقه هو المعتبر في حريته عنده ولهذا تقبل الشهادة على عتق العبد من غير دعوى. ولأن معنى الميل إلى الهوى منعدم في حق الرجل وليس في هذا الإقرار معنى حل الفرج بالملك بخلاف إقرار المرأة. ولو خرج مسلم من دار الحرب ومعه حربي: رجل أو امرأة. فقال: أمنته بالعربية وأخرجته. وقال الحربي: أبطل ولكنه أمنني بالفارسية وثبتا على الاختلاف فهو آمن لأنهما اتفقا على السبب والحكم وإن اختلفا في العبارة ولا معتبر بهذا الاختلاف خصوصاً في الأمان. فقد ثبت من غير عبارة. وإذا الاختلاف في العبارة لا يمنع قبول الشهادة فكيف يمنع ثبوت الأمان. وكذلك لو اختلفا في الوقت الذي أمنه فيه أو في المكان أو في الكتاب والرسالة والأمان باللسان لأنهما اتفقا على ما هو المقصود. والأمان مما يعاد ويكرر. فالاختلاف في هذه الأشياء لا يمنع الحكم بما هو المقصود. ولو قال المسلم: أسلم فخرج معي. وقال الحربي: بل أمنني. فهو فيء لأن الاختلاف هنا بينهما في الحكم المطلوب بالسبب فإن المسلم يستفيد الأمان من قبل إيمانه والمستأمن إنما يستفيد الأمان من جهة من أمنه فمنع اختلافهما لا يثبت واحد من الأمرين. وإن قال: سألني أن يخرج معي ويكون ذمياً فأعطيته ذلك. وقال الحربي: بل أمنني. فهو آمن هنا لأنهما اتفقا على الحكم وهو ثبوت الأمان له من جهة هذا المسلم وإن اختلفا في سببه والمسلم يدعي عليه زيادة وهو احتباسه في دارنا والتزامه الجزية فلا تثبت تلك الزيادة بمجرد قوله ويبقى أصل الأمان له باتفاقهما عليه فيرجع إلى دار الحرب إن شاء. ولو كان مع الحربي المستأمن في دارنا جارية له فأعتقها كان لها أن ترجع إلى دار الحرب لأنها مستأمنة تبعاً له حتى لو أراد إعادتها إلى دار الحرب كان ممكناً من ذلك فبإعتاقه إياها لا يبطل ذلك الحكم. ولو باعها من مسلم أو ذمي صارت ذمية تبعاً لمولاها لأنه من أهل دارنا. فإن أعتقها لم يكن لها أن ترجع إلى دار الحرب لأنه بعدما صارت ذمية لا تعود حربية بالعتق. ولو وجد بها عيباً فردها لم يكن له أن يعود بها إلى دار الحرب ولكن يجبر على بيعها لأنها صارت ذمية بالشراء وثبت الملك لمسلم أو ذمي فيها فكانت بمنزلة أمة ذمية اشتراها المستأمن. فإن كان باعها من مستأمن مثله فأعتقها المشتري فإأن كان من أهل دار البائع فلها أن تعود إلى دار الحرب كما لو كان البائع أعتقها بنفسه لأن حالهما سواء. وإن كان المشتري من أهل أخرى لم يكن لها أن تعود إلى واحدة من الدارين لأن تبعية البائع انقطعت بالبيع وما كان للمشتري أن يخرجها إلى دار نفسه قبل أن يعتقها فكذلك بعد العتق لا يكون لها أن ترجع إلى داره. وهذا لأن المستأمن إنما يتمكن من إعادة ما أخرجه من داره وهو ما أخرج هذه الأمة من داره. وإذا كان هذا الحكم ثابتاً في السلاح ففي الآدمي أولى وإذا ثبت أنها احتبست في دارنا كانت بمنزلة الذمية بعد الاعتاق. وقبل العتاق يجبر على بيعها من المسلمين أو من أهل الذمة كما هو الحكم في الذمية. وإن ردها بعيب على البائع فكذلك الجواب لأنها بعدما صارت ذمية باعتبار المعنى الذي قلنا لا تعود حربية. ولو كان باعها من مسلم فشهد مسلمان أن الحربي كان أعتقها في دارنا قبل أن يبيعها قبلت هذه الشهادة لما فيها من معنى حرمة الفرج فيبطل البيع ويرد البائع الثمن على المشتري. فإن أرادت أن تخرج إلى دار الحرب لم تمنع من ذلك لأن البيع لها ظهر بطلانه فقد تبين أنها حرة حربية. فإن قيل: هي تقر بأنها أمة للمسلم وأنه لا سبيل لها إلى الرجوع إلى دار الحرب. قلنا: نعم ولكن القاضي حكم ببطلان إقرارها بذلك فلا يبقى لإقرارها حكم. ألا ترى أن المشتري مقر أيضاً بأن الثمن سالم للبائع لأنه كان قبضها وذلك لا يمنعه من الرجوع بالثمن على البائع لأن الحاكم حكم بخلاف زعمه. ولو لم يبعها الذي أخرجها ولكنه قال: كانت زوجتي فقهرتها وأخرجتها فهي أمة لي. فقالت: كنت زوجة له فخرجت معه غير مقهورة. فالقول قولها لأن الظاهر شاهد لها. فإنها خرجت وليس عليها أثر القهر. ثم يفرق بينهما إن أسلما بإقراره. فقد أقر أنها صارت أمة له. وذلك مناف للنكاح وإقراره حجة عليه. فإن قيل: فقد حكم الإمام هنا بأنها حرة فلماذا يعتبر إقراره بعد ذلك في التفريق بينهما. قلنا: لأنه حكم بذلك بمجرد قولها ونوع من الظاهر وذلك لا يوجب تكذيب المقر لا محالة. ألا ترى أنه لو أقام البينة على ما ادعى قبلت بينته وقضى بها أمة له بخلاف ما سبق فقد حكم هناك بحريتها بحجة تامة. ألا ترى أنه لا تقبل البينة على رقها بعد ذلك. واستوضح هذا بمسلم تحته مسلمة لم يدخل بها إذا زعم أنها ارتدت من الإسلام وجحدت المرأة ذلك. فإنه يفرق بينهما بإقراره ولها نصف الصداق لأنه غير مصدق عليها في إبطال حقها وإن كان مصدقاً على نفسه وكذلك في مسألة الحربي. فإن قال الإمام: استحلفها ما كان الأمر على ما قلت: فلا يمين عليها في قياس أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه يدعي عليها الرق وأبو حنيفة لا يرى الاستحلاف في دعوى الرق. وعندهما يستحلفها على ما ادعى من سبب الرق عليها فإن نكلت قضى بكونها أمة لأن نكولها بمنزلة إقرارها. ومن أصلهما القضاء بالنكول في دعوى الرق. والله أعلم بالصواب.
|